01/07/2016 - 18:15

الموتى لا ينتحرون | الفصل الرّابع

"بضمانات أمريكيّة يا رفيق." جملة ردّدها بهيستيريا أحد الرّجال النّاجين من المخيّم، والّذي كان يركض مسرعًا في الشّوارع. تجمّع النّاس حول الرّجل الهاذي فلم يجب على أيّ أسئلة سوى بجملته المكرّرة، "بضمانات أمريكيّة يا رفيق."

الموتى لا ينتحرون | الفصل الرّابع

الحرب الأهليّة اللّبنانيّة

صدرت هذا الشّهر، حزيران (يونيو)، رواية للكاتب سامح خضر عن الأهليّة للنّشر والتّوزيع في الأردنّ، بعنوان 'الموتى لا ينتحرون'.

تقع الرّواية، وهي الثّانية لخضر بعد 'يعدو بساق واحدة' (2015)، في 168 صفحة من القطع المتوسّط، وقد صمّم غلافها الشّاعر زهير أبو شايب، علمًا أنّ لوحة الغلاف للفنّان الإسبانيّ أنطونيو مورا.

تنشر فُسْحَة الفصل الرّابع من الرّواية، بإذن من كاتبها.

..........

كلّما التقيت 'حياة' تأكّد لدي شعور أنّ ما هي عليه الآن أفضل ممّا كانت عليه في الماضي. هي مثل شجرة كبيرة متعبة، تضرّرت بعض أغصانها قليلًا واكتست بعض أوراقها باللّون الأصفر، لكنّ البقيّة كانت نضرة ومفعمة بالحياة. مع تكرار لقاءاتنا لم يتبدّد هذا الشّعور، بل تأكّد. كانت تحدّثني عن حياتها في برلين، لا شيء سواها، لا قديم تذكره أمامي سوى أيّامها الأولى في الملجأ ورحلة حياتها القصيرة في مدينة لم تعطها ولم تأخذ منها إلّا القليل.  

قصّة حياة مع الاغتراب كانت عاديّة، فيما لو قارنتها بقصص من يتوافدون على أوروبا هربًا من جحيم قد يحقنه الوطن في عروق مواطنيه. نظرات عينيها اللّوزيّتين كانت تروي معاناة خبيئة وتبوح عن هلع النّجاة من ماضٍ يستحوذ كأرواح شرّيرة عليها. لذلك، تعمّدتُ ألّا أنفض الغبار عن ماضٍ ربّما ليست مستعدّة لتتخلّص منه وترويه بعد. قد تُذَكِّرُنا ندبة ما بحادث مؤلم، لكن ندبات الرّوح نشعر بها دون أن نراها. كنت حذرًا فيما لا أراه من ندبات.  

كنت أسبر أغوار 'حياة' كناسك يهمّ بالدّخول إلى كهف ناء ومهجور، حاملًا في يده شمعة وفي اليد الأخرى كتابًا مقدّسًا. كان حناني عليها شمعتي، وصبري عليها كتابي المقدّس.    

لم تكمن رغبتي في معرفة ماضي حياة مدفوعة بالفضول، بل كانت لأفهم كيف سيمضي مستقبلنا معًا. كنت أرغب بالمعرفة، لا لشيء سوى لتدخل حياتي مصفّاة نقيّة من أعباء الماضي. أعرف أو لا أعرف، لن يغيّر شيئ ما أراه في عينيها من طيبة يولّد لديّ عاطفة لا تقبل المساومة. عاطفة واضحة كماسة في خاتم زواج. ربّما مسّني الخذلان من الدّنيا مثل ذلك الّذي رأيته مرّات في عينيها. أنا نفسي كنت ضحيّته. عندما خرجتُ مع المقاتلين من بيروت بعد كلّ معاركنا الوطنيّة، تارة مع 'إسرائيل' وتارة أخرى مع الكتائب وعملائها، لم تبدّد كلّ الخطابات العنتريّة شعوري بالخذلان تجاه رفاق دربي ممّن قضوا بنيران الأخ وبنيران العدوّ، تجاه تلّ الزّعتر، وصبرا وشاتيلا، ومن قضوا من الرّفاق قنصًا في الشّيّاح وعين الرّمّانة.  

استغرقني وقت طويل لأنفض وبر الخذلان عن نفسي. حيث تفرّق القادة وخرجنا من خنادقنا كأسراب نمل أضلّها مطر غزير وأعمتها غريزة البقاء عن تفقّد أحوال رفاق السّلاح. يؤلمني استعادة لحظة صعودي على ظهر السّفينة الّتي أقلّتنا إلى قبرص. لم يحترمنا البحر، وجرف السّفينة بعيدًا إلى وجهتها في وقت قياسيّ. حضنتُ حافّة السّفينة الحديديّة وتعلّقت عيناي ببيروت الّتي راحت تصغر شيئًا فشيئًا، وكأنّ البحر يعاقبنا على طيش قرار الخروج.  

'قسمًا لأنتقم يا وردة'. جملة صغيرة خططتُها على حمّالة سلاحي حين استشهدت أختي وردة. 'وردة' ابنة السّابعة، قضت مع رفيقاتها في مخيّمنا، مخيّم تلّ الزّعتر. اثنان وخمسون يومًا من الحصار عشتُ كلّ دقيقة فيها، وسقط قلبي خمسًا وخمسين ألف مرّة مع كلّ قذيفة سقطت على سكّانه.    

'بدّي ايّاك تكبر بسرعة يا إياد مشان نرجع لفلسطين. أمّي بتقول إنّنا راح نرجع لفلسطين.. لمّا بسـألها إمتى يمّا؟ بتردّ لمّا يكبر إياد'. أحلام وردة الّتي كانت تردّدها على مسامعنا كلّ يوم. أبقت وردة فلسطين حاضرة فينا... كانت النّاطقة باسمها... الجرس الصّغير الّذي علّقه الله في رقابنا كي لا ننسى أين نحن وأين يجب أن نكون.  

أنقذني القدر من المجزرة. كنت في الحادية عشر من عمري، أعمل مساعدًا لـ  'أبو نايف' الحيفاويّ في ورشة لتصليح السّيّارات في حيّ 'النّبعة' القريب من المخيّم. بعد أن حوصر المخيّم من قبل الميليشيات، حاولتُ مرارًا العودة دون جدوى. طفل في الحادية عشر من عمره يحمل همّ أمّه وأخته الصّغيرة. كنت أجزع حين أسمع صوت الرّصاص وانفجار القذائف خلال النّهار، وفي اللّيل أتسلّل إلى سطح منزل 'أبو نايف' الّذي آواني فيه لأسند ذقني إلى حافّة السّور الخرسانيّ المتآكل، وأراقب القذائف الّتي تسقط على المخيّم الصّغير وأجتهد لتحديد مكان سقوطها. هل تسقط على بيتنا؟ لا يهمّ، إن لم تسقط على بيتنا ستسقط على بيوت أولاد حارتي وجيراني. حتّى اليوم لا أنسى وجه 'أبو نايف' الّذي تظاهر بالبأس لكنّه كان يموت مع كلّ صوت انفجار... في الصّباح كان يرسلني إلى الشّوارع المجاورة لعلّي أسمع خبرًا عن سكّان مخيّم تلّ الزّعتر، حيث تجاور ابنته أمّي.  

'بضمانات أمريكيّة يا رفيق.' جملة ردّدها بهيستيريا أحد الرّجال النّاجين من المخيّم، والّذي كان يركض مسرعًا في الشّوارع. تجمّع النّاس حول الرّجل الهاذي فلم يجب على أيّ أسئلة سوى بجملته المكرّرة، 'بضمانات أمريكيّة يا رفيق.' ظلّ طنين الجملة في أذني لسنوات حتّى قرأت صدفة في إحدى الجرائد بعد ذلك بسنوات عن الضّمانات الّتي أعطتها أمريكا لنا بمنع اجتياح المخيّمات الفلسطينيّة من قبل الكتائب. الثّورات وجوه، وإن كان لثورتنا وجوه في ذهني، فوجه هذا الرّجل المفزوع أحدها.   

ذات يوم وقفت سيّارة لمقاتلين من حركة فتح أمام الورشة لإصلاح عطل صغير فيها. تجرّأتُ وطلبتُ من أحد المقاتلين أن يأخذوني معهم... ردّ عليّ مقاتل آخر بثقة، 'لا داعي يا صغير.. حين تكبر سيكون الأمر منتهيًا لصالحنا.'  

اثنان وخمسون يومًا من الحصار لم أرَ فيها أمّي، ولم أرَ 'وردة'. دخلتُ مع قوافل سيّارات الإسعاف بعد انتهاء المجزرة... وقفتُ على أطلال بيتنا، لا شيء معي سوى يديّ الصّغيرتين اللّتين لا تقويان على حمل الكتل الإسمنتيّة من مكانها... تشرّبتْ ملابسي رائحة الموت... وأزكمت أنفي رائحة تحلّل جثّة أمّي الّتي عثر عليها المسعفون على بعد أمتار من البيت مع مجموعة أخرى من النّسوة. كان قدري أن أجد 'وردة' بنفسي... وجدتها منتفخة الجثّة وعلى وشك التّحلّل... 

توجّهتُ مرارًا للتّنظيمات والفصائل على مدار ثلاث سنوات تلت، ولم يقبلوا بي مقاتلًا لصغر سنّي. لم يتحقّق الأمر حتّى صرتُ في الرّابعة عشر، لمّا جعلتْ رصاصة من قنّاص مارونيّ في رأس مقاتل من فتح منّي مقاتلًا. كان المقاتل الّذي أجهله يتلبّد بحثًا عن مخرج في منطقة 'المتحف'، كان يهمّ بالخروج من مدخل بناية متهالكة حتّى أدركه القنّاص. تسارعت ضربات قلبي، قطعتُ الشّارع نحوه، وبحركة سريعة انحنيتُ والتقطتُ سلاحه ثمّ قطعتُ الشّارع مرّة أخرى. الآن أصبحتُ مقاتلًا.  

اختبأتُ لفترة قصيرة وسلكتُ طرقًا خلت من المارّة، ونمتُ في بيوت هجرها أصحابها. أربعة أيّام هي الوقت الّذي استغرقني حتّى وصلتُ إلى منطقة 'بير حسن' جنوب بيروت. اقتربتُ من حاجز لحركة فتح. تأهّب المقاتلون فردّهم عنّي مقاتل من البدّاوي التقيته بضع مرّات. جملة قصيرة قلتها بإباء: هلّا صرت مقاتلًا فتحاويًّا؟... وين بدكم أوقّف؟  

سنوات طويلة داويت فيها نفسي بالغربة، لكنّها لم تستطع أن تُسْكِتَ صوت القذائف في أحلامي، لم تستطع أن تنسيني وردة الصّغيرة.  

لم أخطّط لخطوة في حياتي. أصبحتُ مقاتلًا بالصّدفة، وبالصّدفة نجوتُ من الموت مرّات عدّة. وصدفة انتهى بي الأمر هنا في ألمانيا. حياتي صدفة كبيرة.  

كلّ ما رغبتُ في فعله مع 'حياة' فعلتْهُ فيّ... استمعتْ إليّ دون ملل وأنا أفتح صندوق ذكرياتي. كنت سعيدًا لأنّ إحساسًا تسرّب في داخلي بأنّ من أشاطرها الماضي الآن أرغب في أن تشاطرني المستقبل.

اقرأ أيضًا: الموتي لا ينتحرون - تلصّص على أحاديث مكتبوتة في خفايا الحياة

التعليقات